إطلالة في سطور (3) موثقة بمجلة درا العرب الثقافية
إطلالة في سطور (3) موثقة بمجلة القصة الذهبية بتاريخ 31 أغسطس 2022
إطلالة في سطور (03)
على الققج بعنوان "دفء"
للقاصة السورية روزيت حداد
بقلم الناقد الفني الدكتور عبد الحميد سحبان
"دفء"
"كانت الطّفلة الوحيدة بينهم، تشاركهم جميع ألعابهم، أثبتت جدارتها كأفضل حارس مرمى لصدّ كل الهجمات، لكنّها، دائماً وبإصرار، ترفض رجل الثّلج، كلّما صنعوا واحداً تحوّله إلى امرأة؛ تجلس في حضنها وترتوي من ثديها"
قص يضرب في عمق الصراع الاجتماعي الجوهري بين الرجل والمرأة على اعتبار أنه القضية الأساسية التي تتجاذب المجتمعات منذ القديم في النظام الأبوي أو الأمومي الذي عرفته الحضارة الإنسانية. وكما هو معروف، اتخذ الصراع في العصر الحالي شكلا مؤسسيا يطلق عليه باللغة الفرنسية (LE FEMINISME) "النسوية" بمعنى التيار المدافع عن المساواة بين الجنسين في شطره الكلاسيكي الاحتجاجي ضد الحيف الذي تعرفه النساء عموما وفي شطره الحداثي الخاص بالتنطير الشامل للنسوية بمختلف تشعباتها.
يستعمل النص العنصرين الأساسين في القضية "الرجل"و"المرأة"، هذه الأخيرة التي أثبتت جدارتها في القيام بأعتى الأدوار الذكورية وبنجاح كبير. لكن عندما يتعلق الأمر بترسيخ تفوق الرجولية التي يرمز إليها النص "برجل الثلج" فإنها تنتفض على الدوام بقوة وإصرار وتستبدله بتمثال نسوي مثقل بتفاصيله الأنثوية "حضنها"/"ثديها". قص يلامس مسألة الثنائية الأزلية بين الرجل والمرأة في إطار "النسوية" بشطريها المذكورين آنفا.
1- إبراز لا تكافؤ الجنسين أو "النسوية الاحتجاجية" في النص: نستشف من لغة النص نبرة تحدي واضحة. فما هو المقصود بـ "الطفلة الوحيدة" إن لم يكن المجال المقتحم حكرا على الرجال وأن دخوله كان بندية تستحق الاعتزاز. "تشاركهم جميع ألعابهم" تذكير بأن المجال المقتحم متحكم فيه بكل تفاصيله وجزئياته وأن لا صعوبة فيه على الإطلاق. وتتصاعد اللهجة عند الإفصاح بأن الأنثى "أثبتت جدارتها" وأنها الأفضل في "كل" الحالات والظروف. إن لغة التحدي البارز من ثنايا هذا القص تحمل نبرة انتقادية مفادها أنه لا يجب الاستهانة بالمرأة فهي قادرة على اقتحام مجالات الرجال الصعبة والتفوق فيها. إنه باختصار التجلي الواضح "للنسوية الاحتجاجية" التي تسعى إلى تغيير الصورة النمطية للمرأة في أذهان الرجال.
2- أليس مونرو (ALICE MUNRO) وهوية المرأة ككل غير قابل للتجزيء (النسوية الحداثية)
إن قصة "فتيان وفتيات" (BOYS AND GIRLS) للكاتبة تدخل ضمن "النسوية الأدبية" من بابها الواسع، لأن بطلة القصة بالرغم من رفضها لأنوثتها ولعبها لدور ذكوري لم تستطع أن تتنكر لجوهرها وانحازت للفرس الأنثى بمساعدتها على الهرب من ثلاثة ذكور (الأب والأخ والخادم) كانوا يستعدون لقتلها بالرصاص وتقديم لحمها للثعالب الذهبية التي كان أبوها يقوم بتريتها في مزرعته لبيع فرائها الثمين. لم تحس البطلة بأي ذنب بفعلها، بل كان تصرفها تلقائيا وطبيعيا حتى، كما أن ذلك هو الشيء الوحيد الذي كان من الممكن أن تقوم به حيال الفرس الأنثى الهلعة من بطش الرجال. لم تحتج البطلة على نعت أبيها لها بأنها ليست سوى أنثى، رضيت بذلك النعت لأنه بدون شك كان هو الحقيقة، وأن المرأة كل لا يمكن أن تتجزأ أو تتجرأ على كيونتها المندمجة.
وعودة إلى النص، فإنه بالرغم من كل الاختراق الذي قامت به الأنثى في عالم الرجال، فإن الكاتبة تذكرنا بأن المرأة تبقى دائما هي هي وفية لهويتها ورمز أمومتها "الحضن" (للدفء النفسي) و"الثدي" (لدفء الامتلاء). ففي كلا النصين تبقى المرأة واحدة لا تتجزأ حين يأتي وقت الحقيقة وهو ما تهدف إليه "النسوية الحديثة" من خلال وضع لبنات تنظيرية عامة حول جوهر الطبيعة النسوية.
3- فرجينيا ولف (Woolf, Virginia) ووضع المرأة في بعدها الإنساني العام. في القصة القصيرة لهذه الكاتبة المصنفة ضمن الأدباء المهتمين بالقضية النسوية بعنوان (A Room of One's Own) "الغرفة الخاصة" تذهب إلى أن القضية يجب أن توضع في الفضاء الرحب للطبيعة بكل تجلياتها وليس ضمن الثنائية الضيقة رجل-امرأة. ولن يتأتى ذلك في نظر الكاتبة وبلغة قصتها المذكورة إلا بمغادرة المجالات المشتركة إلى الغرف الخاصة بكل صنف لتسهيل رؤية العالم والواقع في شموليته ومن خلال خصوصية كل جنس ووضعه الإنساني العام، الإنسان الرجل والإنسان المرأة.
وفي اعتقادي أن عنوان القص "دفء" يرمز إلى وضع الكاتبة للقضية في مسارها الصحيح بعيدا عن الثنائية المشحونة ذكر-أنثى، لأن الدفء يعني الطمأنينة والاقتناع بأن لكل دوره الذي يطمئن إليه سواء كان رجلا أو امرأة، وأن الاختلاف الوحيد يطال فقط الجانب المادي البيولوجي وليس الجوهري الوجودي. وبنظري يبقى هذا البعد من أهم الخلاصات التي انتهت إليها "النسوية" في أحدث تنظيراتها.